نعمة البصر

• المجتمع المسلم ورعايته لذوي البصيرة

المتأمل في كتاب الله تعالى، وسنة مصطفاه، “صلى الله عليه وسلم” ، يجد نظامًا إيمانيًّا تربويًّا اجتماعيًّا تكافليًّا شاملًا.. نظام من ركائزه «تبني هموم الناس، وبخاصة ذوي الاحتياجات الخاصة، والسعي لمعالجتها، وتفريجها»، وتعتبر فئة ذوي البصيرة ممن كُفّ بصرهم، من أكثر فئات ذوي الاحتياجات الخاصة حظًّا، من حيث الرعاية المجتمعية عبر التاريخ، وقد كانت أوضاعهم في المجتمع المسلم أفضل بكثير إذا ما قورنت بأقرانهم في مجتمعات أخرى.
كانت المجتمعات الغربية القديمة (كإسبرطة وأثينا وروما) تقوم بعزل الأشخاص الأسوياء، فما الظن بغيرهم ممن تنقصهم القدرة على اكتساب العيش أو الدفاع عن النفس؟ فكانوا يعتبرونهم عبئا ثقيلا على المجتمع، وفئاته الأخرى، وكان هذا العزل يأخذ أشكالاَ مختلفة قد تصل إلى التخلص منهم بالقتل، ثم استيقظ الضمير الإنساني نحوهم فتم إنشاء ملاجئ مختلفة للعناية بالعجزة، والمعاقين، والمُعوزين وغيرهم، وكانت الخدمات المُقدمة لهم تقتصر على توفير المأوى والغذاء والكساء.
لقد أولى الاسلام، دين الله تعالى، وخاتم شرائعه، اهتمامه الكبير بكل شؤون الحياة ونُظمها.. عامة وخاصة، فردية واجتماعية… الخ. لذا فقد اهتم الإسلام اهتماما كبيرًا بحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، ومنهم من كُفّ بصره، فحرص على تلبية احتياجاتهم المختلفة ودمجهم في المجتمع، ويكفي أن الله تعالى قد عاتب رسوله “صلى الله عليه وسلم” في شأن واحد من هؤلاء المكفوفين (عبدالله بن أم مكتوم): {عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى. وَهُوَ يَخْشَى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} (عبس: 1-11). فكان “صلى الله عليه وسلم” حين يقابل «ابن أم مكتوم» يقول له: «مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي»، وكان إذا غاب عن المدينة- بعد الهجرة- يوليه عليها حتى يعود.

ولقد أكرم الله تعالى المكفوفين بما يجبر خواطرهم ويعلي مكانتهم، فقال رسول الله “صلى الله عليه وسلم” : «إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته بها الجنة» (يريد عينيه) (رواه البخاري). فالمؤمن المُبتلى بفقد نعمة البصر (يتراوح هذا الابتلاء بين العمى الكامل وحالات أخرى قريبة منه) يستقبل قضاء الله وقدره بكل إيمان ورضا، ولقد كان المؤمنون، قديمًا وحديثًا، أمام هذا الابتلاء أطيب قلوبًا، وأسلم صدورًا.

ولا يغيب عن البال حديث الثلاثة، الأقرع والأبرص والأعمى، وهو في صحيح مسلم. يقول الوزير «ابن هبيرة» في كتابة «الإفصاح» بعد إيراد حديث الثلاثة: «البلاء إلى السلامة أقرب من العافية إليها، ألا ترى كيف هلك مع السلامة اثنان: الأبرص والأقرع، ونجا واحد وهو الأعمى»، فالصبر على البلاء يكون خيرًا للمبتلى، وقد حذر الحديث من اتهام القدر، فإن الله ينظر للعبد في الأصلح، والعبد لا يعلم العواقب، و «الصواب أن يسأل الله العافية من البلاء والتوفيق إلى رضاه».

ويقول تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)، يقول الإمام القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن»، وفي معرض حديثه عن كفار مكة: «إن الأبصار لا تعمى، أي إن أبصار العيون ثابتة لهم، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور عن إدراك الحق والاعتبار» ، إلى أن قال- رحمه الله- وقال قتادة وابن جبير: «نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم “رضي الله عنه” ». وقال ابن عباس ولما نزل {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} (الإسراء: 72)، قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله فأنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى، فنزلت: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار، لكن إذا رزق الله العبد الاستقامة والتفقه في الدين والعمل بشرع الله فلا يضره عمى البصر كما قال ابن عباس “رضي الله عنه” :
إن يأخذ الله من عيني نورهما فإن قلبي مضيء ما به ضرر
أرى بقلبي دنياي وآخرتي هو القلب يدرك ما لا يدرك البصر

وقال ابن كثير: «ليس العمى عمى البصر وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر». ففي ذلك عظة وإرشاد إلى خير علاج وهداية لنفس المُبتلى ليجتث منه أي شعور بقلق أو بنقص، ويحل مكانه الرضا والثقة ويرشده إلى أن ما يعانيه لا ينقص من كرامته ولا يحط من قيمته في الحياة، فالعاهة الحقيقية هي التي تصيب الدين والخلق السليم، ولمن أراد المقارنة أن يقارن بين إنسان موفور الأعضاء سقيم الإيمان، وبين عليل سليم العقيدة صحيح الإيمان، ويقارن بين من فقد البصر مثلًا، وآخر فقد الشرف، وبين بتر اليد أو الرجل وبتر الكرامة والأخلاق وتشوه الدين والضمير.

إن أمثال تلك المقارنات لتحمل على الحمد والرضا بسلامة ذي العاهة الجسدية من الإصابة بعاهة إيمانية أو خلقية.

وقد أكد “صلى الله عليه وسلم” علي قيمة «المساواة» في أكثر من حديث، ففي حجة الوداع التي حوت جوامع الكلم ولخصت قواعد الإسلام قال “صلى الله عليه وسلم” «أيها الناس.. إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، خيركم عند الله أتقاكم».

ولكي ينزع من النفوس بقايا نزوع أرضي قال “صلى الله عليه وسلم” : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

كما أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز قد حث على إحصاء عدد المعوقين في الدولة الإسلامية ، ووضع الإمام أبوحنيفة تشريعًا يقضي بمسؤولية بيت مال المسلمين عن النفقة على المعاقين ، أما الخليفة الوليد بن عبدالملك فقد بنى أول مستشفى للمجذومين عام 88هـ، وأعطى كل مُقعد خادمًا، وكل أعمى قائدًا ، ولما ولى الوليد إسحاق بن قبيصة الخزاعي «ديوان الزمنى» بدمشق قال: لأدعن الزّمِن أحب إلى أهله من الصحيح، وكان يؤتى بالزمِن حتى يوضع في يده الصدقة ، والأمويون عامة أنشأوا مستشفيات خاصة، فأنشأ الخليفة المأمون نزلًا للعميان والنساء العاجزات في بغداد والمدن الكبيرة ، وقام السلطان قلاوون ببناء بيمارستان لرعاية المعاقين ، بل وكتب كثير من علماء المسلمين عنهم مثل: «الرازي» الذي صنف «درجات فقدان السمع» وشرح «ابن سينا» أسباب حدوث الصمم.

بل إن من العلماء المسلمين من كان يعاني من إعاقة، ومع هذا لم يؤثر ذلك عليهم فأصبحوا- برعاية ومساعدة محيطهم الأسري والاجتماعي- أعلامًا بارزين، وممن تطرق إليهم «ابن قتيبة» في كتابه «المعارف» حيث ختمه بفصل عن المكفوفين، وعدّ منهم أبا قحافة والد أبي بكر الصديق”رضي الله عنه” ، وأبا سفيان بن حرب، والبراء بن عازب، وجابر بن عبدالله، وكعب بن مالك الأنصاري، وحسان بن ثابت، وعقيل بن أبي طالب . وعقد «ابن الجوزي» في كتابه «تلقيح مفهوم أهل الأثر» فصلًا عن المكفوفين من الأشراف والصحابة والتابعين، ومنهم أبان بن عثمان، ومحمد بن سيرين، ودعبل الخزاعي، والقاضي عبده السليماني، وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج، وحاتم الأصم، وسليمان بن مهران الأعمش، وأبوالعباس الأصم وغيرهم. ومن خيرة من كتب عن المكفوفين في عصرنا الحاضر وأشاد بفضلهم وعدد مناقبهم الشيخ أحمد الشرباصي في كتابه القيم «في عالم المكفوفين» ، وهو دائرة معارف في هذا الموضوع.

ومع مطلع القرن السابع عشر الميلادي استطاع عدد من المكفوفين العباقرة بجهود فردية أن يثبتوا وجودهم، فلم يتمكن هؤلاء الأفراد من تعليم أنفسهم فحسب بل برزوا في فنون الحياة، ولقد كان لتفوقهم كبير الأثر في إنشاء مؤسسات تعليمية وتأهيلية للمكفوفين فيما بعد، ثم نشدت شعوب العالم المعاصر إلى تكامل بين شرائح المجتمع المختلفة، وتهيئة الظروف التعليمية، والتأهيلية، والنفسية، والاجتماعية لتمكين المعاقين من الاندماج في المجتمع.

• من أهم حقوق ذوي البصيرة (المكفوفين)

الإعاقة البصرية تحد من فرص الطفل في التعلم الطبيعي من خلال الخبرات والتفاعل مع البيئة المحيطة، حيث يفتقد الإثارة البصرية اللازمة للنمو والتعلم الطبيعي، فضلًا عن حماية الأهل الزائدة له، وعدم الشعور بالأمن أو الثقة بالنفس، لكن في مجالات مختلفة في مقدمتها التربية والتعليم حظي «ذوو البصيرة» في المجتمع المسلم بقدر كبير من الاهتمام والرعاية، وكانت الكتاتيب التي تقوم بتحفيظ كتاب الله تعالى، وتدريس اللغة العربية وعلومها، ثم كان «الأزهر الشريف» أول مؤسسة تعليم عال تفتح أبوابها لهم، في عام 970م، ولقد تركت تلك المبادرة- والتي أصبحت تقليدًا رائدًا انتشر في أرجاء العالم الإسلامي- بقبول المكفوفين بصريًّا للدراسة مع أقرانهم المبصرين أثرًا عظيما في حياتهم التعليمية والعملية، كما بدأت مدارس منفصلة خاصة بالمكفوفين بصريًّا عرفت بــ«معاهد النور» تظهر إلى حيز الوجود، بدأت هذه المعاهد نهارية، ثم اتجهت لتكون مدارس داخلية، ولعل ذلك يعود إلى أن النظام المبتكر لـ«برايل» كنظام قراءة وكتابة موحد للمكفوفين عزز بشكل أو بآخر فلسفة قيام هذه المدارس، كما لا ننسى مدارس ودور ومعاهد ومراكز متخصصة لرعاية ذوي الإحتياجات الخاصة، ومنهم المكفوفون، تتولى مسئوليتها وزارات التعليم والشؤون الاجتماعية في مختلف الدول الإسلامية.

وبهذا وذاك حقق المكفوفون في المجتمعات الإسلامية نجاحا تعليميا باهرًا، واستطاع بعضهم بعد تخرجه أن يحتل مراكز قيادية مهمة (قضاة ومدرسون وعلماء وخطباء… الخ)، فكان- وما يزال- للمكفوفين دورهم البارز في خدمة المجتمع الإسلامي وإثراء المكتبة الإسلامية، والقيام بدور ريادي في مجالات العلم والقضاء والأدب والشعر والفقه والفتوى، وقدرتهم على المساهمة والمشاركة والإبداع في هذه العلوم من الأمور التي تحدثت عنها كتب السير والتاريخ والتراجم.

فهم كغيرهم من فئات المجتمع، لا يختلفون من حيث الجد والاجتهاد والذكاء والعلم والمعرفة، بل إن بعضهم يبُز غيره، ذلك لأن «ذهنه وفكره وبصيرته تجتمع عليه وتثقل متشبعة بما يعايشه». وقد عقد «الصفدي» في كتابه «نكت الهميان في نكت العميان» فصلًا عن ذكائهم وطرفًا من أخبارهم، ومما أورده: «قل أن يوجد أعمى بليد، ولا يُرى أعمى إلا وهو ذكي ومنهم «الترمذي»، الكبير الحافظ، و«الشاطبي»، و«المقريّ»، و«السُهيلي» شارح السيرة، و«ابن سيده» اللغوي المعروف، و«بشار بن برد» وغيرهم. ومن المُحدثين الشيخ «محمد بن إبراهيم آل الشيخ»، والفقيه الشيخ «عبد الله بن محمد بن حميد»، والفقيه الشيخ «عبد العزيز بن عبد الله بن باز»، والشيخ «عبدالله بن محمد الغانم» وغيرهم.

والمجتمع المسلم ينهض بما أمر الله تعالى ونهاه، وقد نهى الشرع الحنيف عن الغيبة والنميمة، فمن حقوق هذه الفئات عدم السخرية منهم قال تعالى:{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) فالمجتمع الذي يزدري فيه الأصحاء أهل البلاء يكون مصدرًا لشقاء وألم هؤلاء، قد يفوق ألم الابتلاء، في حين أن لأهل البلاء مكانة في المجتمع بإسهامهم في خيره، قال “صلى الله عليه وسلم” : «هل تنصرون، وترزقون إلا بضعفائكم» (رواه البخاري).
خلاصة القول: علاقة المكفوفين بمجتمعهم تحكمها أطر متباينة: إما أنهم عبء عليه، أو يعتبرهم قصرًا تحت الوصاية، أو النظر إليهم كأعضاء عاملين به، وهذا الإطار الأخير حرص المجتمع المسلم على الأخذ به، وعمل على حسن دمجهم فيه، إذا إن كف البصر ليس عائقًا للكفيف، فهو يحمل من القدرات ما يؤهله للعمل الذي يتفق مع ميوله واستعداداته، وهو قادر، بإذن الله، على المساهمة في العطاء والمشاركة في البناء الحضاري والتنموي إذا تم تأهيله التأهيل المناسب، الذي لا يقل بحال عن الاهتمام بغيرهم من ذوي البصر.
د. ناصر أحمد سنة – أكاديمي مصري – مجلة الوعي الإسلامي – قـضـايا عدد ٥٥٧ نوفمبر ٢٠١١م

• أعلام المكفوفين

  • علماء دين:
    • الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز (1922 – 1999)
    • الشيخ عبدالله بن حميد
    • عبد الحميد كشك (1933 – 1996) داعية إسلامي مصري
  • شعراء وأدباء:
    • هوميروس, شاعر اغريقي عاش في القرن السابع الميلادي
    • بشار بن برد (95-167هـ / 714-784م) شاعر عربي
    • أبو العلاء المعري (363-449 هـ/973-1057 م) شاعر وأديب عربي
    • هيلين كيلر (1880 – 1968) أديبة أمريكية كانت كفيفة وصماء
  • آخرون:
    • الأمريكي إريك فبهنماير ( Erik Weihenmayer), على الرغم من أنه كفيف نجح في تسلق جبل إفرست، أعلى جبال العالم، في أحد أشهر عام 2001
    • لويس برايل مخترع كتابة المكفوفين